كيف يُمكن للصين تحقيق الحياد الكربوني بحلول مُنتصف هذا القرن؟

يتقصَّى هذا التقرير الخاص سيناريوهات تحقيق الحياد الكربوني في الصين، وكيفية الاستفادة من مصادر الطاقة المتجددة والطاقة النووية، وعمليات احتجاز الكربون وتخزينه في الدفع باتجاه هذا الهدف

سمريتي مالاباتي
               ستحتاج الصين إلى تعزيز إنتاجها من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060.

ستحتاج الصين إلى تعزيز إنتاجها من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060

 Li Zongxian/VCG/Getty

تعهَّدت الصين، التي تتصدَّر قائمة دول العالم من حيث حجم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بتحقيق الحياد الكربوني قبل حلول عام 2060، على أن تَشرع في خفض انبعاثاتها من الغاز خلال السنوات العشر المقبلة.

ففي جلسةٍ افتراضيّة للجمعية العامة للأمم المتَّحدة، عُقدت في شهر سبتمبر الماضي، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينج تلك التعهُّدات الطموحة أمام جمعٍ من زعماء العالم. وقد كان للخبر وقْعُ المفاجأة على كثيرٍ من الباحثين، ومنهم باحثون صينيُّون؛ إذ لم يكن في حسبانهم أن الصين سوف تلتزم بتحقيق هذا الهدف الجريء. وسوف يتطلَّب الوفاء بهذا الهدف، الذي يُعد أول هدفٍ مناخي طويل المدى تتعهَّد الصين بتحقيقه، خفض صافي انبعاثاتها من غاز ثاني أكسيد الكربون -وربما غيره من غازات الدفيئة الأخرى- إلى مستوى الصفر؛ وهو ما يستلزم اتخاذ عددٍ من التدابير التي من شأنها معادلة الانبعاثات الكربونية، ومنها التوسُّع في زراعة الأشجار، أو احتجاز الكربون وتخزينه في باطن الأرض.

وعلى أثر إطلاق الرئيس الصيني تلك التصريحات، عمدَتْ دورية Nature إلى النظر في مقترحاتٍ عِدّة، تقدَّمت بها مجموعاتٌ بحثية نافذة، تربطها علاقات وثيقة بالحكومة الصينية. تدور هذه المقترحات حول السُّبل التي من شأنها أن تمكِّن الصين من تحقيق الحياد الكربوني قبل عام 2060. وقد تبيَّن أن الخطط المطروحة تتفاوت فيما بينها في بعض المسائل التفصيلية، إلا أنَّها تتفق على ضرورة أن تكون نقطة البدء هي اتجاه الصين إلى الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة (عديمة الانبعاثات) في توليد أغلب احتياجاتها من الكهرباء، ثم التوسُّع في استخدام هذه الطاقة النظيفة حيثما أمكن؛ كأنْ تحلّ السيارات التي تعمل بالطاقة الكهربية محل السيارات التقليدية. وإضافةً إلى ذلك، ستكون الصين بحاجةٍ إلى تقنياتٍ بمقدورها احتجاز غاز ثاني أكسيد الكربون الناجم عن احتراق الوقود الأحفوري، أو المنبعث من الكتلة الحيوية، وتخزينه في باطن الأرض، من خلال تلك العملية التي تُعرف بعملية احتجاز الكربون وتخزينه (CCS).

يقول مارك ليفين، الباحث المتقاعد، المختص بسياسات الطاقة لدى مختبر لورانس بيركلي الوطني، الواقع في مدينة بيركلي بولاية كاليفورنيا الأمريكية، إنَّ أنباء اعتزام الصين تحقيق هدف الحياد الكربوني “تقلب الموازين” على صعيد المناخ العالمي، وقد تدفع بلدانًا أخرى إلى حثِّ الخُطى في هذا الاتجاه، والتحرُّك بوتيرةٍ أسرع مما لو لم تُقْدِم الصين على تلك الخطوة

وحَسْب مقترحٍ طرحه تشانج زيليانج، خبير نمذجة المناخ بجامعة تسنجوا في بكين، فإنَّ وفاء الصين بذلك الهدف يستلزم زيادة معدلات إنتاج الكهرباء إلى أكثر من ضِعف المعدلات الحالية، بحيث تصل بحلول عام 2060 إلى 15,034 تيرا وات في الساعة، على أنْ يُعتمد في إنتاج النسبة الأكبر من تلك الكهرباء على مصادر نظيفة. وسوف تتوقف هذه الزيادة على زيادة إنتاجية عمليات توليد الطاقة الكهربية من المصادر المتجددة زيادةً ضخمة خلال العقود الأربعة المقبلة، بحيث ترتفع إنتاجية توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية بمقدار 16 مرة، ومن طاقة الرياح بمقدار 9 مرات. ومن أجل تعويض الطاقة المولَّدة من الفحم، يتعيَّن على الصين زيادة حجم الطاقة النووية لديها بمقدار 6 مرات، فضلًا عن مُضاعفة حجم الطاقة الكهرومائية

وحسْب المقترَح المقدَّم، سيظل الوقود الأحفوري -مثل الفحم، والنفط، والغاز- يمثل نسبة من الطاقة المُستهلَكة، تبلغ 16%؛ ولذا.. يلزم أن يقترن هذا الاستهلاك بعمليات احتجاز الكربون وتخزينه، أو العمل على معادلة الانبعاثات الكربونية، عن طريق زراعة غابات جديدة، واستحداث تقنياتٍ قادرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون مباشرةً من الغلاف الجوي.

يُذكر أن هذا النموذج، الذي طوَّره زيليانج بالتعاون مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في مدينة كامبريدج الأمريكية، كان جزءًا من مشروعٍ وطني ضخم يستشرف أحد السيناريوهات المستقبلية لخفض الانبعاثات الكربونية في الصين، نُفِّذَ بقيادة معهد تغير المناخ والتنمية المستدامة بجامعة تسنجوا الصينية. وقد قُدِّم النموذج في اجتماعٍ حضره مسؤولون بيئيون في الثاني عشر من أكتوبر، وقال زيليانج عنه: “نموذجنا هو أول نموذج يدعم جهود صنع السياسات الحكومية في هذا الصدد”

وحسْب هذا النموذج، سوف تواصل الانبعاثات الارتفاع، من 9.8 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون في العام الحالي إلى ما يقرب من 10.3 مليار طن في عام 2025، ثم يستقر عند ذلك المعدَّل لمدةٍ تتراوح بين 5 و10 سنوات، قبل أن يشهد انخفاضًا حادًّا يبدأ في عام 2035، ليصل صافي الانبعاثات إلى مستوى الصفر بحلول عام 2060، غير أنَّ تكلفة إحداث تحوُّل في الاقتصاد الصيني، بحيث يعتمد على مصادر أخرى غير الوقود الأحفوري في فترةٍ قصيرة كهذه، ستكون تكلفةً باهظة، على حدِّ قول ليفين، حيث إنّ الطاقة المتولدة من المحطات التي تعمل بالفحم تمثل حوالي 65% من إنتاج الصين من الكهرباء، كما إنّ هناك أكثر من 200 محطة طاقة جديدة تعمل بالفحم قيد الإنشاء حاليًّا، أو جرى التخطيط لإنشائها في المستقبل القريب. وأضاف ليفين قائلًا إنّ هذا التوجُّه سوف “يُقابَل بمُعارضة هائلة” من قِبل الصناعات التي تعتمد على الوقود الأحفوري.

أمَّا فرانك جوتزو، خبير الاقتصاد البيئي في الجامعة الوطنية الأسترالية بمدينة كانبيرا، فيلفت الأنظار إلى تكلفة أخرى لا يُستهان بها، تتمثَّل في عمليات تخزين الطاقة اللازمة لإدماج ناتج طاقة الرياح والطاقة الشمسية في المنظومة على هذا النطاق الواسع

ومع ذلك، يقول جانج هِي، المتخصص في نمذجة نظم الطاقة بجامعة ستوني بروك في نيويورك، إنَّ كلفة تخزين الطاقة باستخدام البطاريات قد انخفضت على مدار العِقد الماضي، وإنّ ذلك ربما يقلل من التكاليف. وأضاف أنه إذا استمرت تكاليف تقنيات الطاقة المتجددة في الانخفاض بالمعدلات الحالية، فقد يصبح بإمكان الصين توليد ما يزيد على 60% من احتياجاتها من الكهرباء، اعتمادًا على الوقود غير الأحفوري بحلول عام 2030. وتابع قائلًا: “إنه لأمر يبعث على التفاؤل حقًّا”

تعزيز إنتاج الطاقة النووية

وضعت فِرقٌ بحثية أخرى تصوُّراتٍ مختلفة لسيناريوهات تحقيق الحياد الكربوني في الصين مستقبلًا، ومنها السيناريو الذي أشرف على وضعه الباحث جيانج كيجون، خبير نمذجة الطاقة في معهد بحوث الطاقة، التابع للجنة الوطنية للتنمية والإصلاح (NDRC) في العاصمة بكين. ووفقًا لذلك السيناريو، سوف تصل الانبعاثات إلى ذروتها بحلول عام 2022، لتبلغ 10 مليارات طن من ثاني أكسيد الكربون، قبل أن تنخفض انخفاضًا حادًّا، حتَّى يصل صافي الانبعاثات إلى مستوى الصفر بحلول عام 2050

ومن أجل بلوغ تلك الغاية، لا بد من مضاعفة معدل إنتاج الكهرباء، ليصل إلى 14,800 تيراوات في الساعة بحلول عام 2050. والملاحَظ أن هذا المعدل يُعادِل نظيره المُقتَرَح في نموذج زيليانج، إلا أنَّ الجزء الأكبر من الطاقة الكهربية سوف يتولَّد في هذه الحالة اعتمادًا على الطاقة النووية (28%)، متبوعةً بطاقة الرياح (21%)، ثم الطاقة الشمسية (17%)، والطاقة المائية (14%)، والكتلة الحيوية (8%). أمَّا الفحم والغاز، فسوف تقتصر نسبتهما على 12% من إنتاج الكهرباء.

ومعنى ذلك أنَّ الصين سوف تحتاج إلى زيادة سعتها الإنتاجية للطاقة النووية -التي تبلغ حاليًّا 49 جيجاوات، تنتجها قرابة 50 محطة طاقة نووية في البلاد- بمقدار خمس مرات، لتبلغ 554 جيجاوات بحلول عام 2050، وذلك عبر تشييد محطاتٍ جديدة على وجه السرعة

وحسب تحليل جيانج، فإنَّ الطاقة النووية تستطيع توفير الحِمل الأساسي المطلوب من الطاقة على نحوٍ أكثر انتظامًا من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وأضاف جيانج أنّ محطات الطاقة النووية، في أحدث تصميماتها، تتسم بالأمان، ولا تُنتج سوى قدر ضئيل من النفايات المُشعة

ورغم ذلك ينظر كثيرٌ من الباحثين إلى الطاقة النووية بعين الريبة؛ إذ يرى زيليانج أنَّ التكلفة والوقت اللازمين لبناء محطات الطاقة قد شهدا زيادةً هائلة، كما أنَّ واقعة الانصهار التي شهدتها محطة “فوكوشيما دايتشي” للطاقة النووية في اليابان خلال عام 2011 جعلت إقامة تلك المحطات في المناطق الداخلية من البلاد أمرًا غير مقبول بالنسبة إلى الكثيرين.

تقليص الاعتماد على الفحم

يتصدَّى جيانج في تحليله إلى مسألة جوهرية أخرى، تبقى مثار خلافٍ بين الباحثين، وهي المتعلقة بدور عمليات احتجاز الكربون وتخزينه. يذهب هذا النموذج إلى أنَّه قد يكون من الممكن الاعتماد على تقنيات احتجاز الانبعاثات الكربونية وتخزينها في التعامل مع حوالي 850 جيجاوات من الطاقة الكهربية المولَّدة من الفحم، والغاز، والوقود الحيوي.

وعن ذلك يقول هونجبو دوان، الخبير الاقتصادي المتخصص في شؤون المناخ بجامعة الأكاديمية الصينية للعلوم في بكين، الذي وضع أيضًا نموذجًا يتطلَّب استخدام تلك التقنيات بكثافة: “مثل هذه الأهداف المناخية الصارمة يتطلَّب استخدامًا مكثفًا لتقنيات احتجاز الكربون وتخزينه”، لكنَّ ذلك يتطلب استثماراتٍ ضخمة، بالنظر إلى أنَّ الصين لا تمتلك حاليًّا سوى منشأةٍ واحدة كبيرة قيد التشغيل لاحتجاز الكربون وتخزينه في أحد حقول النفط، إضافةً إلى سبع منشآتٍ أخرى في طور التخطيط أو التشييد في الوقت الراهن. صحيح أن هذه التقنيات ستتيح للصين الاستفادة من قدرٍ من الطاقة المُولَّدة من الفحم على المدى الطويل، إلا أنها -وفقًا لبعض الباحثين- ما زالت باهظة التكلفة، مما يحدّ من استخدامها.

ويرى كثيرٌ من الباحثين أنَّه يتعيَّن على الصين التوقف عن بناء محطاتٍ جديدة لتوليد الطاقة التي تعمل بالفحم. ويضيف كار ساندهولت، خبير نمذجة نظم الطاقة، المقيم في كوبنهاجن، ويعمل لدى المركز الصيني الوطني للطاقة المتجددة، التابع للجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، قائلًا إنّ العمر الافتراضي لمحطات الطاقة القائمة سوف يحين قبل الموعد النهائي المُعلَن لتحقيق هدف الحياد الكربوني، خلال 40 عامًا.

وأمَّا جانج هِي، فيلفت الأنظار إلى إنَّ الصين تحتاج -وهي تُنفِّذ هذا التحوّل- إلى أن تأخذ في اعتبارها رفاهية عمال صناعات الطاقة وتعدين الفحم، الذين يبلغ عددهم قرابة 3.5 مليون عامل، وأن تُعنَى بأمنهم الاقتصادي، وأن تلتفت كذلك إلى الكثيرين من مواطنيها الذين يعتمدون على خدمات الكهرباء والتدفئة منخفضة التكلفة.

وأكبر الظن أنَّ النهج الذي ستأخذ به الصين البلاد، سعيًا إلى تحقيق هدف الحياد الكربوني، سوف يُصبح أكثر وضوحًا خلال الشهور المقبلة. فالصين، شأنها شأن سائر البلدان المُوقِّعة على اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015، مُلزَمةٌ بتقديم أهدافٍ أكبر لخفض الانبعاثات قبل نهاية العام الجاري. كما يعمل المسؤولون الصينيون حاليًّا على إعداد النسخة الأولية من الخطة الخمسية الأحدث للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في الصين، التي من المقرر إصدارُها في مارس المقبل، ويُتوقَّع أن تشمل سياساتٍ تهدف إلى تحقيق الحياد الكربوني.

وعلى حدِّ قول تشانج تشونج شيانج، الخبير الاقتصادي بجامعة تيانجين، فإن التحليل المفصَّل لأهداف الطاقة والمناخ كفيلٌ

بأنْ يُبيّن مدى جدِّية الصين في الوفاء بوعد الحياد الكربوني الذي قطعَتْه على نفسها.

Nature (2020)

doi:10.1038/d41586-020-02927-9

English article

%d bloggers like this: