لماذا تؤدي إزالة الغابات إلى زيادة احتمالية تفشِّي الأوبئة؟

يُكثِّف الباحثون جهودهم من أجل الوقوف على طبيعة العلاقة بين التنوع البيولوجي، والأمراض الناشئة، والبحث في كيفية الاستفادة من تلك المعلومات في التنبُّؤ بتفشِّي الأوبئة المستقبلية، وسبل منْع تفشي الأوبئة.

جيف توليفسون

Nature (2020)

doi:10.1038/d41586-020-02341-1

English article

يقول الخبراء إنَّ الحدّ من إزالة الغابات (موضَّحة في الصورة، الملتقَطة من غابةٍ مدارية مطيرة بحوض الكونغو) يمكن أن يقلل من احتمال ظهور جوائح مستقبلية.

يقول الخبراء إنَّ الحدّ من إزالة الغابات (موضَّحة في الصورة، الملتقَطة من غابةٍ مدارية مطيرة بحوض الكونغو) يمكن أن يقلل من احتمال ظهور جوائح مستقبلية.

Credit: Patrick Landmann/Science Photo Library

يتسبَّب البشر في تَراجُع التنوع البيولوجي على كوكبنا بإقدامهم على إزالة الغابات، والتوسُّع في إنشاء البنية التحتية. وحيث إنَّهم يفعلون ذلك، فَهُم يزيدون من خطر انتشار الأوبئة والجوائح، ومنها جائحة “كوفيد-19”. وطالما ظنَّ العديد من علماء النظم الإيكولوجية وجود صلةٍ بين هاتين الظاهرتين، إلى أن خرجَتْ دراسة حديثة، تكشف الغطاء عن السبب الكامن وراء هذه الصلة. فحين ينقرض بعض الأنواع، فإنَّ الأنواع الأخرى، القادرة على البقاء والترعرُع -ومنها الخفافيش، والفئران، على سبيل المثال- تزداد فرصة حمْلها للمُمْرِضات التي يمكنها الانتقال إلى البشر، والتي قد تمثل خطرًا على صحَّتهم.

تتضمَّن الدراسة تحليلًا لحوالي 6800 مجتمع إيكولوجي، منتشرة عبر ست قارات. وهكذا، فإنها تمثل إضافةً إلى رصيد متنامٍ من الأدلة التي تربط بين فقدان التنوع البيولوجي، وبعض اتجاهات النشاط البشرية التنموي من جهة، وبين تفشِّي الأمراض من جهةٍ أخرى، غير أنَّ الدراسة تعجز عن توقُّع المناطق التي قد تشهد تفشيًا لأمراض جديدة.

تقول كيت جونز، اختصاصية النماذج الإيكولوجية في كلية لندن الجامعية، التي أسهمت في وضع الدراسة محلَّ النظر، المنشورة في دورية Nature1 في الخامس من شهر أغسطس الجاري: “لقد حذَّرنا من هذا طيلة العقود الماضية، لكنَّ أحدًا لم يُعِرْنا انتباهًا”.

وجونز هي واحدة من بين أعضاء مجموعةٍ بحثية عكفَتْ -على مدى فترة زمنية ممتدَّة- على دراسة العلاقات بين التنوع البيولوجي، وطُرُق استغلال الأراضي، والأمراض المعدية الناشئة. لم تكن أبحاث تلك المجموعة تلفت الأنظار في المعتاد، أما الآن، إذ يترنَّح العالم من وقْع جائحة “كوفيد-19″، فقد أصبح التركيز مُنْصَبًّا بالدرجة الأولى على المساعي الرامية إلى تحديد المخاطر التي تحدق بالمجتمعات حول العالم، والتنبُّؤ بالمناطق التي يُرجَّح أن تنشأ بها الأمراض.

وفي هذا الصدد، نظَّم “المنبر الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية” IPBES بداية الشهر الماضي ورشة عمل عبر الإنترنت عن الصلة بين فقدان التنوع البيولوجي، والأمراض الناشئة. تهدف المؤسسة حاليًّا إلى الخروج بتقريرٍ مُعَدٍّ من قِبَل الخبراء، لتقييم الأساس العلمي الذي تستند إليه تلك الصلة، وذلك قبل قمة الأمم المتحدة المزمع انعقادها في شهر سبتمبر بمدينة نيويورك الأمريكية، التي يُنتَظر فيها أن تأخذ الحكومات على نفسها تعهداتٍ جديدة من أجل الحفاظ على التنوع البيولوجي.

وثمَّة قِسمٌ آخر من الباحثين، يطالب باتخاذ تدابير أوسع نطاقًا. ففي الرابع والعشرين من شهر يوليو الماضي، نشرَتْ مجلة “ساينس” 2Science مقالًا لمجموعةٍ من الباحثين متعددي التخصصات، من بينهم علماء فيروسات، واقتصاديون، ومتخصصون في النظم الإيكولوجية، يذهبون فيه إلى أنَّ بإمكان الحكومات المساعدة في تقليل مخاطر التعرُّض لجوائح مستقبلية، من خلال الحد من إزالة الغابات، ووضع قيود على تداول الحيوانات البرية، بما يتضمَّنه ذلك من بيعٍ واستهلاك لتلك الحيوانات، التي كثيرًا ما تتسم بنُدْرتها، وقد تكون حاملةً لمُمْرضاتٍ خطيرة.

ويُلاحَظ أن غالبية الجهود المبذولة لمنع انتشار الأمراض الجديدة تميل إلى التركيز على تطوير اللقاحات، والتشخيص المبكر للأمراض، ومكافحتها، إلا أنَّ هذا النهج يُعالج أعراض المشكلة، دون التطرُّق إلى أسبابها، حسبما يرى بيتر داستزاك، عالِم الحيوانات في منظمة “إيكو هيلث ألايانس” EcoHealth Alliance غير الحكومية بمدينة نيويورك، الذي ترأَّس ورشة عمل المنبر الحكومي الدولي. وأضاف أن مرض “كوفيد-19” قد ساعد على إبراز حاجتنا إلى استقصاء دور التنوع البيولوجي في انتقال مُسبِّبات الأمراض إلى البشر.

كما أشار داستزاك إلى أنَّ هذه الدراسة الأخيرة التي أجراها فريق جونز تعزز الحُجج الداعية إلى اتخاذ الإجراءات الملائمة حيال هذه القضية، قائلًا: “إننا نتطلَّع إلى العثور على طرقٍ لتغيير السلوك بما يعود بالنفع المباشر على التنوع البيولوجي، ويحدُّ من المخاطر الصحية”.

تعاظُم المخاطر

أظهرت الدراسات السابقة أنَّ العقود القليلة الماضية قد شهدت زيادةً في تفشي الأمراض التي تنتقل من الحيوانات إلى البشر، مثل المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس)، وإنفلونزا الطيور4،3. ومن المحتمل أن تكون هذه الظاهرة نتيجةً مباشرة لزيادة احتكاك البشر بالحياة البرية والماشية، مع دخولهم مناطق غير مُستَغَلَّة من قبل. وتتسارع وتيرة هذه التفاعلات عند نقاط التماسِّ بين نطاقي التوسُّع البشري، والحياة البرية، بسبب التغيرات التي تطرأ على البيئات الطبيعية، وزيادة اختلاط البشر بالحيوانات.

هذا.. ولكنْ ثمة سؤال جوهري ظلَّ يُلحُّ على العلماء خلال العقد الماضي، يتعلق بما إذا كان التراجع في التنوُّع البيولوجي، المُلازم للتوسُّع البشري عند حدود المناطق غير الحضرية، يؤدي إلى زيادةٍ في أعداد المُمْرِضات التي يمكنها الانتقال من الحيوانات إلى البشر، أم لا. وتشير دراسة جونز وفريقها5 إلى أنَّ إجابة هذا السؤال تكون بالإيجاب في كثيرٍ من الحالات؛ لأنَّ فقدان التنوع البيولوجي يؤدي عادةً إلى تبدُّل حال البيئة، وانخفاض عدد الأنواع الموجودة بها، تاركًا تلك المُمْرِضات القادرة على الانتقال إلى البشر لتحملها الأنواع المتبقية.

ولإجراء تلك الدراسة التحليلية الأخيرة، جمعت جونز وفريقها أكثر من 3.2 مليون سجل من مئات الدراسات الإيكولوجية التي تتناول مواقع مختلفة حول العالم، تشمل غاباتٍ طبيعية، وأراضي زراعية، ومدنًا. ووجدوا أنَّ مجموعات الأنواع المعروفة بحمْلها للأمراض القادرة على الانتقال إلى البشر -التي تشمل 143 نوعًا من الثدييات (منها الخفافيش، والقوارض)، وأنواعًا مختلفة من الرئيسيات- قد ازدادت مع تغير البيئة من طبيعيةٍ إلى حضرية، وكذلك مع تراجع التنوع البيولوجي بوجهٍ عام.

“لقد حَذَّرنا من هذا طيلة العقود الماضية، لكنَّ أحدًا لم يُعِرْنا انتباهًا”.

وينبِّه بعض الباحثين إلى ضرورة توخِّي الحذر عند الحديث عن بؤر التنوع البيولوجي، باعتبارها المناطق التي يُحتمل أن تتفشي فيها الأمراض. وحول هذا الشأن، علَّق دان نيبستاد، الباحث في مجال النظم الإيكولوجية المدارية، ومؤسس معهد “إيرث إنوفيشن” -وهو منظمة غير هادفة إلى الربح، تنظم حملاتٍ لمُناصَرة التنمية المستدامة، وتتخذ من مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا مقرًّا لها- قائلًا: “ما يُثير قلقي، بصراحة، هو أنَّ الناس سيكونون أكثر إقبالًا على قَطْع الغابات، إذا استقرَّ في وعيهم أنَّها ستكون مصدر الجائحة التالية”. وأضاف أن الجهود المبذولة للحفاظ على التنوع البيولوجي لن تُكلَّل بالنجاح، ما لم تُعالَج العوامل الاقتصادية والثقافية المسبِّبة لظاهرة إزالة الغابات، وكذلك العوامل التي تُلجئ فقراء المناطق غير الحضرية إلى الاعتماد في معيشتهم على صيد الحيوانات البرية، والاتِّجار فيها.

ويتفق مع هذا الطرح إبراهيما سوسي فول، عالِم الوبائيات، ومدير عمليات الطوارئ في منظمة الصحة العالمية بمدينة جنيف في سويسرا، إذ يرى أنَّ فهْم طبيعة النظم الإيكولوجية القائمة على حدود المناطق غير الحضرية، وكذلك المعالم الاجتماعية والاقتصادية لتلك المناطق، سيكون ضروريًا للتنبُّؤ بالتفشي المستقبلي للأمراض. وأضاف قائلًا إنّ “التنمية المستدامة أمرٌ بالغ الأهمية؛ إذ لو استمرَّت إزالة الغابات، وأعمال التعدين، والتنمية العشوائية بالمعدلات الراهنة، فسوف نواجه مزيدًا من تفشي الأمراض”.

تنسيق الجهود

أكبر الظن أنَّ إحدى الرسائل التي سيخرج بها التقرير المرتقب للمنبر الحكومي الدولي تتمثَّل في دعوة العلماء وصنَّاع القرار إلى التعامل مع الأماكن التي تحدّ المناطق غير الحضرية بنظرةٍ أكثر شمولًا؛ بحيث يتصدَّون لقضايا الصحة العامة، والبيئة، والتنمية المستدامة في الوقت نفسه. ففي أعقاب انتشار جائحة “كوفيد-19″، شدَّد العديد من العلماء ودعاة الحفاظ على البيئة على وضع قيود على تجارة الحيوانات البرية؛ وهي تجارة يُقدَّر حجمها بنحو عشرين مليار دولار أمريكي سنويًّا في الصين، التي شهدَتْ ظهور أولى حالات الإصابة بالمرض. وقد علَّقت الصين تلك التجارة مؤقتًا، إلا أنَّ داستزاك يرى أنَّ تلك التجارة ما هي إلا جزءٌ واحد من معادلةٍ أشدَّ تعقيدًا، تشمل الصيد، وتربية الماشية، واستغلال الأراضي، إلى جانب النظم الإيكولوجية.

يعتمد الكثيرون على أسواق الحيوانات البرية كمصدرٍ للرزق، مثل هذا السوق الموجود في مقاطعة بالي الإندونيسية.

يعتمد الكثيرون على أسواق الحيوانات البرية كمصدرٍ للرزق، مثل هذا السوق الموجود في مقاطعة بالي الإندونيسية.

Credit: Amilia Roso/The Sydney Morning Herald via Getty

وأضاف داستزاك قائلًا: “على علماء البيئة أن يتعاونوا مع باحثي الأمراض المعدية، والعاملين في مجال الصحة العامة، والأطباء، لتتبع التغيرات البيئية، وتقييم خطر انتقال المُمْرِضات إلى البشر، والحدِّ من الأنشطة البشرية الخطِرة”.

وداستزاك هو أحد مؤلفي مقال مجلة “ساينس” المذكور آنفًا، ويرى أنَّ بإمكان الحكومات الحدَّ -بدرجةٍ كبيرة- من خطورة أية جوائح مستقبلية على شاكلة جائحة “كوفيد-19″، وذلك بالسعي إلى وضع قيود على إزالة الغابات، وكذلك وضْع قيود على الاتِّجار في الحيوانات البرية، إضافةً إلى رصْد تفشي الفيروسات القادمة من الحيوانات البرية والماشية، ومنْعها، ومكافحتها. وقد قَدَّر المؤلفون أنَّ التكلفة الإجمالية لتفعيل هذه الإجراءات سوف تتراوح بين 22 و33 مليار دولار سنويًّا، غير أنَّ هذه التكلفة ستكون -وفقًا لتقديراتهم- أقل بمئة مرة من الكلفة التقديرية لجائحة كورونا، التي تبلغ 5.6 تريليون دولار.

ومن جهته، يقول فول إنَّ العامِل الحاسم في هذا الشأن يكمن في تنسيق جهود الحكومات، والجهات الدولية المعنية بالصحة العامة، وصحة الحيوان، والبيئة، والتنمية المستدامة. وأردف قائلًا إنه إذا تعاونت الجهات المعنية بصحة الإنسان، وصحة الحيوان، والبيئة، على النحو المنشود، فسوف “يتوفَّر لدينا بعض آليات الإنذار المبكر”.

References

Gibb, R. et al. Nature (2020). | article

Dobson, A. P. et al. Science 369, 379–381 (2020). | article

Jones, K. E. et al. Nature 451, 990–993 (2008). | article

Smith, K. F. et al. J. R. Soc. Interface 11, 20140950 (2014). | article

Faust, C. L. et al. Ecol. Lett. 21, 471–483 (2018). | article

%d bloggers like this: